في ليلة باردة من يناير 2020، لم تكن درجة الحرارة تتجاوز الـ15 درجة مئوية في الأنبار العراقية، لكن الجو سرعان ما اشتعل مع دوي الانفجارات. 10 صواريخ باليستية إيرانية سقطت على قاعدة عين الأسد الجوية، التي تضم قوات أمريكية، لتأتي هذه الضربة كرد فعل على اغتيال اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، بغارة أمريكية بطائرة مسيّرة.
حبس العالم أنفاسه. المحللون تحدثوا عن حرب شاملة وشيكة، فإيران خسرت أحد أهم قادتها خلال 45 عامًا. لكن الرواية الأمريكية خففت من حدة الموقف، معلنةً عدم وجود قتلى بين صفوفها، وعددًا محدودًا من الإصابات. خرج الرئيس دونالد ترامب بخطاب هادئ على غير عادته، موجهًا رسالته للعالم: “لقد اتصلوا بنا وقالوا لنا: ليس لدينا خيار، علينا أن نضربكم، لأننا نقدر أنفسنا، وقد تفهمتُ هذا! بدأنا بضربهم فعليهم أن يفعلوا شيئًا!”.
ما حدث حينها كان أشبه بمسرحية دقيقة. الملاجئ أُخليت، والجنود ابتعدوا عن الخطر قبل دقائق من الهجوم. الأضرار كانت محدودة، ومع إعلان الطرفين رضاهما عن النتيجة، هدأت الأمور. قال المرشد الإيراني علي خامنئي إن الضربة كانت “صفعة على وجه أمريكا”، بينما وصفها ترامب بأنها “دليل على أن إيران اختارت التهدئة”. كلٌ منهما وجد مبرره.
الحرب ليست للتدمير فقط: فن التفاوض بالقوة
خلف كواليس حادثة عين الأسد والعديد من الأحداث المشابهة، يبرز منطق جديد في الاستراتيجية العسكرية والعلوم السياسية ونظرية الألعاب: الحرب لا تهدف للتدمير فقط، بل هي أداة تواصل بين الساسة. لا يتابع القادة الأخبار من غرف التحكم والسيطرة؛ بل هم من يحدد مسار الأحداث. المحللون في الاستوديوهات الإخبارية، رغم اجتهادهم، يفتقرون للمعلومات الكاملة، فما يرونه ليس سوى “تمثيل لنص متفق عليه صُنع في الكواليس”.
السياسيون يقفون خلف مسرح الحرب ليضعوا اللمسات النهائية للمشهد، بينما تتوزع القوات المسلحة على الخشبة. الصحفيون والمحللون والجمهور يتابعون من المدرجات. أما أنت أيها القارئ، فمقعدك هو ذلك الشاب الذي لا يملك ثمن التذكرة، وينتظر خروج الجمهور ليسمع منهم تفاصيل المسرحية.
من هيروشيما إلى عين الأسد: عقلنة العنف
بعد مرارة الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين، حيث حصدت الملايين من الأرواح، أدرك العالم الكوارث الناتجة عن العنف غير المقيد. التوسع الهائل في الصناعات العسكرية بعد تلك الحروب زاد من خطورة خروج العنف عن السيطرة. هذا الاستنتاج لم يقتصر على الضحايا، بل شمل مرتكبي العنف أيضًا.
هنا ظهرت الحاجة للتعامل مع الحرب كآلية تفاوض وتواصل، لا كأداة إفناء. يرى الاقتصادي توماس شيلينغ في كتابه “استراتيجية الصراع” (1960) أن “القدرة على الإيذاء هي قدرة على التفاوض، واستغلالها هو شكل من الدبلوماسية.. إنها دبلوماسية خشنة، لكنها تظل دبلوماسية”. قدم شيلينغ مفهومًا جديدًا للصراع كـ”لعبة محسوبة” تعتمد على التهديد الموثوق باستخدام القوة، لتصبح الحرب في جوهرها “محادثة عنيفة، لا عنفًا يقضي على الحوار”.
حروب البروتوكول والرسائل المشفرة
شهد التاريخ أمثلة مبكرة على هذا النمط. في أزمة مضيق تايوان الثانية عام 1958، تحول قصف الصين لجزر كينمن إلى نمط بروتوكولي: الصين تقصف في الأيام الفردية، وتايوان ترد في الأيام الزوجية. لم تكن هناك هجمات مفاجئة، بل إيقاع منتظم من القذائف، كأن الطرفين وقعا على اتفاق غير معلن لإدارة حرب لا تتجاوز خطوطًا حمراء.
في هذه العمليات، تُطلق النيران تحت سقف من التفاهم، لا لتدمير العدو، بل لتوجيه رسائل سياسية، وتحقيق أهداف تفاوضية، وتجنب الانفجار الشامل. إنها “مسرحية مدروسة” تُدار بذكاء كجزء من أدوات الحرب الحديثة.
عندما يصبح العنف أداة دبلوماسيةمنذ الحرب العالمية الثانية، تعلمت الدول العظمى والصاعدة أن الحروب الشاملة لم تعد خيارًا آمنًا. أُعيدت هندسة العقلانية العسكرية لتصبح أكثر برودة وتوازنًا. فبدلاً من حشد الجيوش لخوض حروب إبادة، أصبحت الدول تراكم القوة وتلوح بها دون استخدامها. إنها تحاكي العنف وتظهر القدرة على استخدامه، دون تفريغ طاقته بالكامل.
الحرب، كما يقول الفيلسوف العسكري الألماني كارل فون كلاوزفيتز، هي “استمرار للسياسة بوسائل أخرى”. العمليات العسكرية الرمزية، حتى لو تضمنت ضرب قواعد أو إطلاق مسيرات، لا تهدف لشل قدرات الخصم، بل لإرسال رسالة دقيقة، محسوبة، ومشفرة بلغة النار. كل ذلك دون فتح الباب على جحيم الحرب الشاملة، وأحيانًا لتفريغ طاقة التصعيد وإنهاء الصراع بحفظ ماء وجه الأطراف.
أمثلة من التاريخ: صواريخ “توماهوك” وأزمة الصواريخ الكوبية
في أبريل 2017، أطلقت مدمرتان أمريكيتان 59 صاروخ “توماهوك” على قاعدة الشعيرات الجوية السورية، ردًا على هجوم كيميائي. هذه الضربة، التي بدت تصعيدًا مفاجئًا، كانت محسوبة ومحكومة بسقف سياسي. أبلغت الولايات المتحدة روسيا مسبقًا، مما أتاح إخلاء القاعدة وتقليل الخسائر. عادت القاعدة للعمل خلال 48 ساعة. لم يكن هذا عجزًا تقنيًا، بل قرارًا واعيًا لإبقاء الضربة في إطارها الرمزي: “لدينا القدرة، ولدينا الإرادة، لكننا نُحسن ضبط النفس”.
قبل ذلك بعقود، في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، كشفت طائرة تجسس أمريكية عن منصات صواريخ نووية سوفيتية في كوبا. خلف التهديدات العلنية، كانت هناك مفاوضات سرية لتهدئة التصعيد. سحبت موسكو صواريخها مقابل تعهد أمريكي بعدم غزو كوبا، وسحب سري لصواريخ “جوبيتر” الأمريكية من تركيا. كل طرف أظهر قدرته على التصعيد، دون الانزلاق إليه فعليًا، وادعى كل منهما النصر.
ترامب والأسرار المكشوفة
هذه الأحداث، التي كانت تتم في الخفاء وتُكشف لاحقًا بعد رفع السرية عنها، اكتسبت بُعدًا دراميًا وسرعة في الكشف مع مجيء دونالد ترامب. ترامب، الذي يرى البعض أنه لا يكتم الأسرار، كشف معلومات استخباراتية شديدة السرية خلال اجتماعاته، ونشر صورًا عالية الدقة لمواقع إطلاق صواريخ إيرانية عبر تويتر، كاشفًا قدرات الأقمار الصناعية الأمريكية للعالم.
هذه الممارسات، التي قد تقوض عمل الأجهزة الاستخباراتية، تؤكد أن ساحة السياسة الدولية قد تحولت إلى مسرح كبير، حيث تُلقى الرسائل عبر القذائف، ويتم التفاوض بالتلويح بالقوة، وكل ذلك يتم غالبًا في كواليس لا يعلم عنها الجمهور شيئًا.
منذ أكثر من ألفي عام، كتب الاستراتيجي الصيني صن تزو كتابه الشهير فن الحرب، واضعًا أسسًا لفهم الصراع ليس كفوضى دموية، بل كفنٍّ راقٍ يتطلب مهارة، وتخطيطًا، ورسائل مشفّرة. ومنذ ذلك الحين، لم تعد الحرب مجرد مواجهة بين جيوش، بل أداة سياسية تُستخدم بحساب، وتُدار كأنها عرض مسرحي أمام جمهور عالمي.
مسرح العمليات.. لماذا “مسرح”؟
في القرن السابع عشر، ظهر في الأدبيات العسكرية الفرنسية مصطلح “مسرح الحرب” (Le Théâtre De La Guerre)، الذي انتقل لاحقًا إلى اللغات الأخرى ومنها العربية. لم يكن المصطلح اعتباطيًا، بل يعكس تشابهًا عميقًا بين الحرب والمسرح:
- في المسرح: هناك نص، ومخرج، وممثلون، وجمهور.
- في الحرب: هناك خطة، وقادة، وجنود، ورأي عام يراقب ويُقيّم.
كل مشهد عسكري يُعرض على “خشبة العمليات” يكون محسوبًا، وقد لا يُظهر كل ما يدور خلف الكواليس. فالتراجع قد يكون تكتيكًا، والضربة قد تكون رسالة، والانتصار قد يكون رمزيًا.
الحرب كأداة تفاوض
في كتابه استراتيجية الصراع، كتب الاقتصادي الأميركي توماس شيلينغ أن “القدرة على الإيذاء هي قدرة على التفاوض”. فالحرب ليست فقط لتدمير العدو، بل لإرسال رسائل سياسية، وفرض إرادة، وتحقيق مكاسب دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
مثال ذلك:
- ضربة عين الأسد (2020): إيران أبلغت العراق مسبقًا، والأميركيون أخلوا القاعدة، وسقطت الصواريخ دون قتلى.
- ضربة الشعيرات (2017): أميركا أبلغت روسيا، والنظام السوري قلّل الخسائر، والضربة كانت رمزية.
- أزمة الصواريخ الكوبية (1962): تصعيد علني، وتسوية سرية، وانسحاب متبادل دون حرب.
ترامب والمشهد المسرحي
الرئيس الأميركي دونالد ترامب، القادم من تلفزيون الواقع، أدرك قوة الصورة والدراما. في أحد لقاءاته مع زيلينسكي، قال: “سيكون هذا عرضًا تلفزيونيًا رائعًا”. وفي ممارساته السياسية، استخدم الضربات العسكرية كـ”مقاطع دعائية” مدروسة، تُظهر القوة دون الانزلاق إلى حرب.
الحرب كعرض رمزي
في يونيو 2025، نفذت إسرائيل ضربة دقيقة ضد منشآت نووية إيرانية. إيران ردت بصواريخ على قواعد أميركية، لكن بعد تحذيرات مسبقة. النتيجة؟ لا تصعيد شامل، بل رسائل متبادلة ضمن قواعد اشتباك مضبوطة.
الرياضة كبديل حضاري
في المقابل، تقترح الرياضة نموذجًا بديلًا للحرب. كما يرى علماء الاجتماع مثل نوربرت إلياس وألين غاتمان، فإن البطولات الرياضية تُحاكي الحرب رمزيًا:
- أعلام، أناشيد، منافسة، جمهور
- لكن النهاية مصافحة، لا مجازر
أشهر مثال: دبلوماسية تنس الطاولة بين أميركا والصين عام 1971، التي مهدت لزيارة نيكسون التاريخية إلى بكين.