في أطراف الصحراء، تقف مارب منارة تنموية في زمن الحرب، المدينة التي نهضت من الرمال، احتضنت ملايين النازحين الفارين من مناطق سيطرة ميليشيا الحوثي، ونجحت في الحفاظ على وهجها، لكن خلف هذا البريق يكمن تحدٍّ خطير يهدد حاضر المدينة ومستقبلها: أزمة الصرف الصحي.
هذه المشكلة ليست مجرد إزعاج يومي أو مشهد غير حضاري فقط؛ بل هي “قنبلة موقوتة” تنذر بكوارث بيئية وصحية، ومشاكل بنيوية وأمنية، ومع تزايد عدد السكان وتوسع المدينة بشكل غير مسبوق، تفاقمت المشكلة لتتحول إلى معضلة معقدة يصعب تجاهلها.
أصل المشكلة؟
في الماضي اعتمدت مارب على قناة واحدة للصرف الصحي، كانت تتبع مكتب الأوقاف والإرشاد، وتمتد من الجامع الكبير في قلب المدينة، مروراً بشارع صنعاء، وصولاً إلى جولة المؤسسة جنوبا، قبل أن تؤسس في السنوات الماضية قناة تصريف أصغر من الأولى تمتد من جامع عذبان القريب من جولة سبأفون وسط المدينة وصولاً الى الموقع ذاته، وترتبط بهاتين القناتين مساجد ومقار حكومية ومتاجر وفنادق وحارات سكنية، فيما تعتمد بقية المدينة على خزانات الصرف “البيارات” الخاصة.
في السنوات الأخيرة، تسلمت مؤسسة المياه إدارة قناة التصريف الأولى من مكتب الأوقاف، وفيما يقول مكتب الأوقاف إن عدد المشتركين فيها كان 124 مشتركاً فقط عند تسليمها، قال مصدر في مؤسسة المياه إن عدد المشتركين فيها آنذاك، تجاوز 450 مشتركاً، وهو عدد يفوق القدرة الاستيعابية لها بكثير، فيما لا يعرف عدد المشتركين في القناة الجديدة.
وتتسبب القناتان بطفح دائم في الشوارع، لا سيما في شارع دبي والشوارع القريبة منه، وتسري المياه العكرة شديدة التلوث عبر الشوارع جنوبي المدينة، كما أن محطة الصرف “المؤقتة” الموجودة في جولة المؤسسة، لا تكفي لاستيعاب كل المياه الواردة من القناتين، لتنتشر في الشارع الرئيسي بشكل شبه دائم.
وعبر السنوات، يرفع المواطنون أصواتهم ويطلقون المناشدات لحل هذا الوضع الخطر، ويحذر الخبراء من إهمال مشروع ضروري من شأن المماطلة فيه أن تخلف كوارث، لكنها نداءات لا تجد صدى من قبل مسؤولي المكاتب المعنية في المحافظة الذين احترفوا تقاذف الكرة فيما بينهم، ولا من المنظمات المعنية بالشأن الإغاثي والإنساني العاملة هنا، والتي لا شك مسؤولة باعتبار مارب محافظة معظم سكانها حالياً من النازحين.
مخاطر
أكد “محمد دغمس” الموظف في مياه الريف بمارب، أن وضع “الصرف الصحي مشكلة كبيرة يواجهها المجتمع كله، مئات الآلاف من النازحين والساكنين”، مضيفاً أنها مشكلة “تهدد المياه الجوفية في مديرية الوادي مستقبلاً”، كما تهدد أماكن أخرى، فمثلاً “مبنى كلية المجتمع محاط من كل الجهات بالبيارات التي حفرها النازحون الساكنون فيه، وهو مهدد في المستقبل بهذه البيارات”.
ولمخاطر مشكلة الصرف الصحي بمارب عدة وجوه، أبرزها:
1. ما تزال قناة الصرف الصحي “المؤقتة” والواقعة بالقرب من مدخل المدينة والمدخل الرئيسي لمخيم الجفينة أكبر مخيمات النزوح في اليمن، والمياه التي تتدفق منها في الشوارع بين الحين والآخر، مصدر إزعاج للسكان، ومن شأنها أن تتسبب في تلوث بيئي وتصنع بيئة خصبة لأمراض عديدة.

يقول طبيب يعمل في أكبر مستشفيات مارب “مستشفى الهيئة” في حديث لـ”المصدر أونلاين” إن “مياه الصرف الصحي التي نراها بين وقت وآخر في بعض الشوارع، تعد خطراً كبيراً على الصحة العامة والبيئة”، مشيراً إلى أن أبرز المخاطر الصحية تتمثل في انتشار “الأمراض المعدية، حيث تُعد مياه الصرف الصحي بيئة مثالية لنمو البكتيريا والفيروسات التي تُسبب أمراضًا معدية خطيرة، مثل الكوليرا والتيفوئيد والتهاب الكبد الوبائي A و B. إضافة إلى الإسهالات، والتسمم الغذائي الناتج عن تلون الطعام والماء، وأمراض الجهاز التنفسي، والأمراض الجلدية”.
2. تهدد خزانات الصرف الصحي “البيارات” المحفورة عشوائيا في شوارع المدينة أساسات المباني والشوارع المعبدة، وسط تحذيرات من كارثة مستقبلية قد تحل بالمدينة. وبين الحين والآخر تُتداول على مواقع التواصل الاجتماعي صور وفيديوهات لخزانات صرف صحي تلتهم باصات وسيارات تمر من فوقها، فالتربة الرملية المترعة بمياه الصرف تتسبب في انهيار سريع يفشل معه السائق في إنقاذ مركبته، فكيف بمنزل!.

3. تهدد خزانات الصرف الصحي “البيارات” التي تنفذ بشكل مخالف للمواصفات، المياه الجوفية في محيط المدينة والتي تستخدم للشرب وري المزروعات، وهي مياه سطحية يغذيها سد مارب الشهير والقريب من المدينة، كما تهدد الخزانات التي أنشئت بالقرب من أنابيب مشروع الماء الرئيسي بالمدينة بالتسبب في تلف المشروع والاختلاط بالمياه.
وحصل المصدر أونلاين على صور يظهر فيها حفر خزانات صرف في منطقة أنابيب المياه بوسط المدينة وخطوط الاتصالات، ما قد يتسبب بكارثة في حال انهيار الخزان، وكثيرا ما تحصل الانهيارات.
4. خزانات الصرف في مخيم الجفينة للنازحين، معضلة أخرى، فهي تحفر في مناطق رملية، وغالباً لا يسمح بإدخال الحديد والإسمنت الى المخيم لتغطيتها، وبينما يتمكن بعض النازحين من تهريب المواد وتغطيتها بالخرسانة، يعجز آخرون، لتظل مهدداً دائما للسكان وأطفالهم وسياراتهم.
وخلال العام الماضي، 2024، رصد محرر المادة وفاة وإصابة ما لا يقل عن ستة أطفال في المخيم منهم طفلان في يوم واحد، نتيجة سقوطهم في تلك الخزانات.
وتغيب منظمة الهجرة الدولية عن هذه المشكلة رغم أنها من يتولى مسؤولية المخيم، ورغم المحاولة لم نتمكن من الوصول إلى مسؤول في المنظمة ليجيب عن أسئلتنا.

سجال المكاتب المعنية:
توجهنا لمدير مؤسسة المياه والصرف الصحي بمارب حسين بن جلال، لنسأله عن مشكلة المياه العكرة التي تسيل بشكل دائم في الشوارع، فقال إنها “بسبب مشروع نفّذ (في البداية) باسم جامع عذبان، ونفذه صالح الطاطي (تاجر)، ولم يسلمه للمؤسسة، وقام بالتوصيل لعشرات المشتركين”، مشيراً إلى أن “المؤسسة قامت بالرفع للنيابة، ومازالت تطالب الجهات الأمنية والنيابة بتوقيف هذا المتنفذ، وتسليم المشروع للمؤسسة”.
وأضاف بن جلال لـ”المصدر أونلاين”: “كذلك سبب الطفح أن هناك توصيل عشوائي من المواطنين في خط الصرف الصحي شارع دبي وفي حارات أخرى، وهذا واحد من الأسباب”، متهما مكاتب “الأشغال، الأوقاف، التحسين”، بإصدار تصاريح والربط بشكل عشوائي لمشتركين في قناة الصرف.
وتابع: “أكثر من 250 مشتركاً رابطين بطريقة مخالفة، أتمنى من المديرية والأشغال والتحسين والأمن، الوقوف معنا للفصل، رغم أن المخالفين يعرضوا مبالغ ماليه ورفضناها من أجل لا نتسبب بأذى الناس بسبب الطفح، لو تم الفصل سوف يتوقف الطفح”.
وأكد بن جلال أن فريق مكتب المياه “يقوم بكل ما هو ممكن في صيانة غرفة التفتيش وتتبع الانسدادات”، لكن “مدير التحسين، جميع الشفاطات مسلمة له من السلطة المحلية ومن بعض المنظمات، وعندما نريد توقيف طفح يجلسوا لما يوفروا شفاط ثلاث أيام، يتحججوا بانعدام الديزل، وأحياناً يقولوا الشفاط معطل، وعلى هذا الموال، رغم أننا طالبنا بتوفير شفاط من أجل يتم توقيف الطفح خلال ساعات”.
واتهم بن جلال الجهات المعنية بالتقاعس عن ضبط المخالفين: “كل ما تم الرفع بالمخالفين للجهات المعنية لم يتم الضبط”، مشيراً إلى أن محطة الصرف المؤقتة “هي مصغرة تستوعب 100م3 وعندما اشتغلت 3 شهور، وهم اشتغلونا بالربط العشوائي والتحسين والأشغال والأوقاف… لما أصبحت مستنقع”، وتابع متسائلاً: “من الذي ربط شارع 26 وش. صنعاء وش 40؟، التحسين”.
وحول الخزانات العشوائية في المدينة، قال بن جلال: “هذه على (مكتب) الأشغال”، مؤكداً أنه “يتم حفر البيارات بدون الالتزام بالمواصفات أو وضع صبيات، مما يتسبب في تشبع الأرض بمياه الصرف، وتحدث انهيارات للتربة، ومن بعدها للصبيات التي (في العادة) لا تزيد عن مترين، وتوضع لتثبيت الغطاء، لتنهار البيارة كاملة من بعدها”.
وطالب بن جلال “بعدم حفر بيارات إلا وفق مواصفات، بحيث تكون خزانات خرسانية”، كما طالب السلطة المحلية “بقيادة الأخ المحافظ بالإسراع في إيجاد موقع المحطة خارج المدينة في الصحراء، لتنفيذ مشروع صرف صحي يستوعب مدينة مأرب ومديرية الوادي، لنحافظ على المدينة من الانهيار وتلوث المياه، وكذلك للحفاظ على المياه الجوفية بمديرية الوادي من التلوث بالصرف الصحي بسبب البيارات (المنتشرة) في المدن والقرى”.

مدير الأشغال يرفض الرد:
واكتفى مدير مكتب الأشغال العامة والطرق بمارب عبدالله العقيلي، حين وجهنا له أسئلة من “المصدر أونلاين” عبر تطبيق الواتساب، بالخصوص، بسؤالنا إن كنا سألنا مكتب المياه عن المشكلة، ثم لم يرد على أسئلتنا.
التحسين: مسؤولية مكتب المياه
من جانبه أكد مدير مكتب التحسين في مارب محمد عطية أن “الصرف الصحي هو من اختصاص مكتب المياه والصرف الصحي، هم المسؤولون عن المشروع الأهلي اللي موجود، وأيضا مسؤولون عن الصرف الصحي الذي يصب هناك في مدخل المدينة، الناس مشتركين فيه ويدفعون اشتراك شهري وهم يتسلمونها، والمكتب مسؤول عن أي خراب فيه”.
وأضاف: “القضية تحتاج إلى جهود منهم، وغرف التفتيش الموجودة عند فندق دبي تحتاج إلى جهود وصيانة، وستصلح الأمور”، مشيراً إلى أن مهندسي مكتب التحسين تقدموا “بخطة ودراسة لصيانة غرف التفتيش التي دائما يحصل فيها انسداد، حتى لا تسيل المياه في الشوارع، ولا ندري ايش تم فيها”.
وعن شاحنات سحب مياه الصرف الصحي “وايتات الشفط” التابعة لمكتب التحسين، قال عطية، للمصدر أونلاين، إنها “تقوم بدورها في خدمة المواطنين، لكن الوايتات اللي معنا لا تفي بالغرض لتستجيب للضغط الهائل، ومهمتها شفط البيارات، ولا علاقة لها بمشروع المجاري”، مضيفاً: “كان معنا في 2013 شفاط واحد ويغطي المحافظة والمديريات، الآن معنا 7 شفاطات، ونحو 12 شفاط خاص تابعة لأشخاص، ما قدرنا نغطي المدينة”.

محطة المعالجة
ونظراً للازدحام السكاني الكبير في المحافظة لم تعد صيانة قناتي الصرف ولا خزانات التصريف الخاصة، تكفيان لحل المشكلة وفق خبراء، وهذا ما أكده محافظة المحافظة عضو مجلس القيادة الرئاسي، اللواء سلطان العرادة، لدى لقائه بالصحفيين في مايو العام الماضي، مشيراً إلى أن تلك مشكلة مقلقة للغاية، وأن السلطة المحلية تسعى منذ زمن لإيجاد بديل أنسب، وهي تمضي في ذلك الاتجاه وهناك بوادر نجاح، كما قال.
ووفقا لعدة مصادر تحدثت لـ”المصدر أونلاين”، من بينها مدير مؤسسة المياه ومسؤولون آخرون في السلطة المحلية، فإن مشروعاً لمحطة معالجة للصرف الصحي بالمدينة ما زال متعثراً لسببين: الأول، رفض ملاك الأرض من قبائل عبيدة أن يقام المشروع في أراضيهم، وهو ما سبق أن تسبب بتعثر حجز أرض لمحطة معالجة “صغيرة” بدعم من الصندوق السعودي للتنمية عام 2014، والسبب الثاني: عدم توفر التمويل اللازم لإنشاء المشروع في الوقت الحالي، والذي يتجاوز الأربعين مليون دولار.
وكانت شركة استشارية من الأردن، قامت كما تقول المصادر، في عام 2008، “بعمل دراسات مياه وصرف صحي لعدد 13محافظة من ضمنها مأرب، وتم فصل دراسات المياه عن دراسة الصرف الصحي، وتم طلب اعتماد تمويل لتنفيذ محطة معالجة، وخطوط نقل، وشبكات صرف صحي، واعتمد التمويل من الصندوق السعودي للتنمية، ونزلت المناقصة وتم التعاقد مع مؤسسة أمين مهدي، والحصول على قطعة أرض في منطقة الجفينة، حيث النازحين الآن، وبدأ العمل في تسوير الموقع عام 2014، ولكن تم إيقاف المقاول من قبل المواطنين”.
وأضافت المصادر أن التوقيف استمر “حتى انقلاب مليشيا الحوثي على الدولة في صنعاء، وتوقفت جميع المنح ومنها منحة الصندوق السعودي، وقامت الحرب، وبدأ النزوح الى محافظة مأرب، وتوسعت المدينة، وزاد عدد السكان، وقامت السلطة المحلية بالاتفاق مع شركة استشارية مصرية لتحديت الدراسات والعمل عليها بما يتواكب مع التوسع العمراني والازدياد السكاني”.
وقال مدير مؤسسة المياه، إنه وحتى الآن، “لم يتم إيجاد موقع لمحطة المعالجة” وإن “السلطة المحلية بقيادة الأخ المحافظ مهتمة بتنفيذ المشروع، وإن شاء الله يتم قريبا إيجاد أرض في الصحراء”.
خاتمة
في ختام هذا التقرير، تبدو أزمة الصرف الصحي في مأرب بمثابة اختبار حقيقي لمدى قدرة المدينة على الموازنة بين تطورها المتسارع واحتياجات سكانها الأساسية، فبينما تقف كرمز للصمود والنمو في زمن الحرب، يهدد هذا الخلل البنيوي بنسف الإنجازات وتشويه صورتها كواحة للأمل في وسط هذه الصحراء.
وتُظهر تجارب مدن مثل مومباي في الهند وسنغافورة، وقبل ذلك لندن التي كانت ما زالت تعاني وهي عاصمة امبراطورية لا تغيب عنها الشمس في القرن الثامن عشر، أن المشكلات المتعلقة بالصرف الصحي ليست مستحيلة الحل، التحدي يكمن في الإرادة، والتخطيط الجيد، والتعاون بين الجهات المختلفة.
وفي مارب، حتى الآن مازالت الحلول ممكنة لكنها تتطلب التزامًا جماعيًا من السلطة المحلية، السكان، والمنظمات الدولية العاملة في المنطقة، والمسألة هذه ليست مجرد مسألة خدمات بل هي قضية حياة وكرامة لكل من اتخذ من مأرب موطنًا، سواء كان من أبنائها الأصليين أو النازحين الباحثين عن الأمان.