(رحمك الله): وداع ينطق به القلب ويلخص حياة بأكملها
كانت الدعوة مغموسة بالدمع والزفرات، خرجت من أعماق القلب لحظة وداع، وكأنها تختصر سنوات طويلة من الحياة. سنوات تراكمت فيها الأفراح والتحديات، شريط حياة يمر كأنه ومضة، وعمر شعرت أنه تلاشى في لحظة.
حين تودّعه إلى مثواه الأخير وقفت أراقبهم وهم ينزلونه إلى قبره، كلٌ منشغل بإتمام المهمة؛ أحدهم يقول: “ضعه هنا”، آخر يطلب فك الأربطة، والبعض يعلق بأصوات متقطعة لإتمام آخر خطوات الرحيل. وسط هذا الانشغال رأيته فجأة بجانبي. نعم، رأيته! يقف بابتسامة ووجه يشع صبرًا ورضا. كان كما عرفته، متسامحًا مع ما كتبه الله عليه، يتحدث بطيبة ويحمل سلامًا من كل قريب وبعيد.
ولكن… كان طيفًا! غبار التراب أخفاه عن عيني، وأصوات من حولي أيقظتني من وهلة التصوّر. أصبح الحاضر واقعًا، وأنا أستعد لحثو التراب عليه.
الرسالة التي لا تنسى لكن وسط كل هذا الصخب، جاء الصوت الذي ترددت صداه في داخلي، وكأني أسمعه بوضوح: “إنه أخوك، ميعادك قد اقترب”. حاولت أن أقاومه، أن أنكر، لكن الصوت كان أكثر رزانة هذه المرة: “الكبر والمرض مجرد أسباب؛ الردى لا يعرف عمرًا ولا يمهل أحدًا”.
حاولت إسكاته، لكنه بدأ يوقظني من سباتي: “أين من عاشوا قبل مئة عام؟ أين أجدادك؟ الصحابة رضي الله عنهم في قبورهم منذ أكثر من ألف وثلاثمئة عام. وأصحاب عيسى عليه السلام مر عليهم ألفا عام تقريبًا. الموت قد أخذ كل من كان هنا، ولن يفوتك الدور مهما طال الزمن”.
التفكير في موعد الرحيل وجدت نفسي أطرح سؤالًا مستحيل الإجابة: متى يأتي دوري؟ بعد عام؟ بعد عشر سنوات؟ ولكن من رحمة الله بنا أنه أخفى ذلك عنا، ابتلاءً لنكون مستعدين دائمًا، وعزيمة كي لا نهمل العمل. لو علم الإنسان موعد موته، لترك الدنيا خاوية.
درس من الحياة هذه اللحظات ليست وداعًا فحسب، إنها تنبيه دائم لنا كبشر بأن الموت لا ينسى أحدًا، وأن الاستعداد هو المفتاح الوحيد للقاء ما لا يمكن تجنبه.